اهتم سلاطين المماليک بالصَّعِيد، أو الوَجْه القِبْلي اهتمامًا کبيرًا؛ لما يتمتع به من موقع جغرافي فريد کان له أثر کبير في تجارة مصر الداخلية والخارجية. وقد قسم الصَّعِيد منذ فجر الإسلام إلى ثلاثة أقسام: الصَّعِيد الأدْنى، والصَّعِيد الأوْسَط، والصَّعِيد الأعْلى، کما قُسم تبعًا للتطور الإداري إلى تسعة أعمال أو أقاليم، وقد حدثت لهذه التقسيمات الإدارية بعض التغييرات، بحذف بعض النواحي من بعض الأعمال وإدماجها في أعمال أخرى. کما قُسّمت الوظائف الإدارية بصعيد مصر في عصر سلاطين المماليک الجراکسة إلى أربع طبقات، الطبقة الأولى: النواب، حيث کانت نيابة الوجه القبلي من النيابات المستحدثة في عهد السُّلْطان الظاهر بَرْقُوق(784-801هـ/1382-1399م)، وکان مقرها أسْيُوط، وحکمه على جميع بلاد الصَّعِيد، وکان القائم بها قبل ذلک يُسمى والى الولاة، ولم يکن لها هذه الأهمية بسبب هدوء الصَّعِيد، وحين ازدادت الأخطار التي هددت مصر من النوبة والحبشة استحدث السُّلْطان بَرْقُوق هذه الوظيفة بجانب وظيفة والي أُسوان. أما الطبقة الثانية فهي الکُشَّاف، وهذه الوظيفة کانت موجودة قبل استحداث وظيفة نيابة الوجه القبلي، حيث کان هناک کاشف بالبَهْنَساوية والفيوم، أما باقي الوجه القبلي فأمره راجع إلى نائبه في أسيوط، والطبقة الثالثة هم ولاة الوجه القبلي وينقسمون إلى مرتبتين الأولى أمراء الطبلخاناه، وهم أربعة: والي البَهْنَسا، والي الأُشْمُونين، والي قوصوإخْمِيم وهو أعظم ولاة الوجه القبلي، ثم والي أُسوان، والمرتبة الثانية أمراء العشرات وهم: والي الجيزة، ووالي إطْفيح، ثم والي مَنْفَلُوط. أما الطبقة الرابعة فهم أمراء العربان، وکانت في ثلاثة أعمال: عمل قوص، وعمل الأشمونين وعمل البَهْنَسا، وهذه الوظائف کان يحدث بها تغييرات من فترة لأخرى على نحو ما حدث للتقسيمات الإدارية. وقد توافدت القبائل العربية على الصَّعِيد حتى استقرت فيه فعليًا في العصر الفاطمي، ومنذ ذلک الوقت أخذت کل قبيلة تسيطر على منطقة معينة بالوجه القبلي، وظهرت في صورة أحلاف عربية کان هدفها مواجهة تزايد العنصر الترکي، وفيسنة 782هـ/1381م، نزلت قبيلة هَوَّارة من البحيرة إلى الصَّعِيد، وأقطعها الأمير بَرْقُوق –السُّلْطان فيما بعد- ناحية جِرْجا فعمروها، بعد أن کانت خرابًا واتسع نفوذها في الوجه القبلي، وانتشرت في أرجائه، وبسطت يدها على بلاد الصَّعِيد من الأعمال البَهْنَساوية إلى أُسوان وما يليها، وأقطعوا فيها الإقطاعات، وأذعنت لها سائر العربان بالوجه القبلي قاطبة، وانحازوا إليها وصاروا تحت قيادتها. ومنذ أن انتقلت قبيلة هَوَّارة إلى الصَّعِيد انقسمت إلى فرقتين الأولى: بادين واستوطنوا الأعمال البَهْنَساوية، وعرفوا بهَوَّارة البحرية، وکانت الإمرة فيها لبني مازن ثم صارت إلى أولاد غريب، وبعد ذلک عادت إلى أولاد مازن، ثم ترکت الإمرة، وانقسموا إلى خمسة أخماس، وجُعل لکل خُمس شيخ له الأمر على طائفته، والثانية: بُندار، وعرفوا بهَوَّارة القبلية، ومقرها جِرْجا وما يليها من الصَّعِيد الأعلى إلى أُسوان، والإمرة فيها لبني عمر بن عبد العزيز، وکانوا يمتازون بکثرة أموالهم ورجالهم. وقد ازداد نفوذ هَوَّارة بالصَّعِيد مع تولي عمر بن عبد العزيز الهوّاري الإمرة، وتوثقت علاقتها بالسلطنة المملوکية في إطار المنافع المتبادلة؛ فالطاعة والأمن والمساعدة الحربية مقابل النفوذ والسيطرة على الصَّعِيد، فبنو عمر يساندون الدولة في القضاء على تمرد العرب بالصَّعِيد، ولو کانوا من بني عمومتهم- بني غريب- ويؤدون فروض الطاعة من تقديم الهدايا إلى السُّلْطان على العادة، کالخيول وغيرها، هذا بالإضافة إلى دفع الخراج المقرر على البلاد المُقطَعة لهم، ومساندة الدولة بفرقة عسکرية عند حاجتها إلى ذلک؛ لقمع حرکات المعارضة، کما کانت قبيلة هَوَّارة من جملة القبائل الممثلة في الجيش المملوکي، وکانت قوتها القتالية في ذلک الوقت تقدر بأربعة وعشرين ألف مقاتل. وعلى الرغم من تمتع زعماء العُربان بالإقطاعات الوفيرة والاستقلال المحلي المحدود، بل ووراثة المشيخات في قبائلهم ونواحيهم، إلا أن ثوراتهم کانت مزمنة وعنيفة، ولم يترددوا في الخروج على السلطنة المملوکية والثورة ضدها، إذا لاحت لهم الفرصة. وکان العامل الأساسي في ثورات العُربان هو الکراهية العنصرية للمماليک الذين مسهم الرق، وازدادت ثوراتهم وفتنهم في عصر سلاطين المماليک الجراکسة، وکانت الدولة تقوم بمواجهتهم والقضاء على تمردهم عن طريق الکُشَّاف وولاة الأقاليم، أو ترسل إليهم تجاريد عسکرية من القاهرة يقودها أحد کبار الأمراء، وکان من بين هؤلاء الأمراء الذين توجهوا إلى الصعيد لإخضاع العُربان الأميريَشْبک من مهدي، الذي قام بأربع حملات عسکرية، وهو ما سوف تعالجه الدراسة فيما يلي.
علي, د. عمر جمال محمد. (2018). حملات الأمير يَشْبک من مَهدي الدَّوَادَار على صَعيد مِصْر (873-883هـ/1468-1478م). التاريخ والمستقبل, 32(عدد 64 يوليو 2018), 338-361. doi: 10.21608/hfj.2018.241831
MLA
د. عمر جمال محمد علي. "حملات الأمير يَشْبک من مَهدي الدَّوَادَار على صَعيد مِصْر (873-883هـ/1468-1478م)", التاريخ والمستقبل, 32, عدد 64 يوليو 2018, 2018, 338-361. doi: 10.21608/hfj.2018.241831
HARVARD
علي, د. عمر جمال محمد. (2018). 'حملات الأمير يَشْبک من مَهدي الدَّوَادَار على صَعيد مِصْر (873-883هـ/1468-1478م)', التاريخ والمستقبل, 32(عدد 64 يوليو 2018), pp. 338-361. doi: 10.21608/hfj.2018.241831
VANCOUVER
علي, د. عمر جمال محمد. حملات الأمير يَشْبک من مَهدي الدَّوَادَار على صَعيد مِصْر (873-883هـ/1468-1478م). التاريخ والمستقبل, 2018; 32(عدد 64 يوليو 2018): 338-361. doi: 10.21608/hfj.2018.241831